الاميرة جورية
{سبحان الله وبحمده ..!
الحرب الرحيمة(1)
هذه هي المحاضرة السابعة للدكتور سارة، وما زال الحضور هو الحضور، وكثر الحديث عن هذه المحاضرات، في بعض المنتديات، إضافة إلى كتابات في صحف ومجلات، تضمنت بمجموعها الثناء عليها، وإن ظهر في بعضها نقد لها، بحجة أنها تتوسع في إيراد النصوص وفي التحليل أحياناً، واحد فقط ممن كتب عن هذه المحاضرات، قال إنها عاطفية.
قد علق كاتب في جريدة الجامعة، وقال هناك خلط بين العاطفية والعائلية، فهذه المحاضرات كأنها وجبات عائلية، تصلح أن يتداولها أفراد العائلة جميعاً، لكنها تبقى فيما يبدو وجهات نظر، كانت هي نفسها محل أعجاب البعض الآخر، بخاصة أولئك الذين لديهم اهتمامات مسبقة بهذا الموضوع.
لم يصدر عن الدكتورة سارة تعليق قط، على ما قيل بشأن محاضراتها هذه، وهو ما استرعى انتباه كثير من المتابعين، وكان بودهم، أن يسمعوا منها شيئاً، لكن لم يشأ أحد منهم أن يطرح هذا الموضوع، أو يسأل عنه.
افتتحت الدكتورة سارة محاضرتها، كعادتها بالترحيب بالحضور، ثم بدأتها قائلة :
سبق الحديث في محاضرة سابقة، عن صلة الأخلاق بعضها ببعض، وقد نقلنا حينها رأي بعض علماء الأخلاق، والذي جاء فيه أن الشخصية الإنسانية ليس بمقدورها أن تبرز في خلق معين، ليصبح علامة فارقة لها مالم تمارس هذه الشخصية ابتداءً غيرها من الأخلاق، وتتلبس بالقيم عامة، وذكرنا حينها مقولة بعض العلماء، إن الأخلاق يقوي بعضها بعضاً، وهو ما يشهد للرأي السابق.
أردت أن تكون هذه الأسطر، مقدمة لموضوع اليوم، ولعلكم تذكرون أن أحد الحاضرين المح إليه قبل عدة محاضرات، وقلت له حينها إنه جانب أصيل من موضوعنا، وسوف نعرض له بشيء من التفصيل.
ولكن يبدو لي أني مضطرة قبل أن أعرض لهذا الموضوع، ولصور الرحمة المصاحبة له، إلى أن أتحدث قليلاً عن فلسفة الحرب في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أخفي عليكم أني لا أرغب في الحديث عن الحروب، وأحسب أنكم تبادلوني الشعور نفسه، ولا تحبون الاستماع إلى ما يتصل بهذه الحروب، التي زكمت الأنوف، برائحتها الكريهة، في عصر خبثت فيه السرائر وعميت فيه البصائر.
لقد أصابنا اكتئاب من أخبار الحروب، والمناظر المصاحبة لها، من دماء وأشلاء، ودمار حتى يُخيل لنا أن البشرية فقدت صوابها، ولم تعد تدري لماذا القاتل يقتل، ولمَ المقتول قتل، ولا لمَ الظالم ظلم، ولا كيف المظلوم انتقم.
إن كراهيتنا للحرب، وأخبارها، وآثارها، لهي من أهم الأسباب التي دفعتنا للحديث عن الأخلاق، وبخاصة خلق الرحمة منها، لتذكر البشرية التائهة، أن ثمة خلقاً في الأرض يسمى الرحمة، قد يغني في مواطن كثيرة عن الحرب، والكراهية، ولتعلم البشرية أيضاً أن ثمة شخصاً تمثلت الرحمة في سيرته كلها، وكانت السلاح الذي حارب به خصومه، في مواطن عدة ، حين حاربوه بالقوة والقسوة، والوسيلة التي جذب فيها كثير من الناس إلى دعوته، ونجح في نشر ثقافة الرحمة بين الناس.
لكن ما العمل إذا كان الحديث عن الرحمة، يمر أحياناً عبر الحديث عن الحرب، وما فيها من هم وكرب، وأرجو أن لا يفهم أننا ننساق خلف العاطفة، ويغلبنا الشعور بالإنسانية، لدرجة أننا نتجاهل قضية الصراع بين الخير والشر في هذه الدنيا، أو نتغافل عن الأسباب التي تؤدي إلى الصراعات سواء ما كان منها مقنعاً أو غير مقنع، مشروعاً أو غير مشروع.
أود أن أعرض ما لدي عن موضوع الحرب في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على هيئة نقاط، حتى لا يأخذنا الحديث إلى حيث لا نريد، بخاصة أننا أمام موضوع تضطرب فيه الآراء، وتؤثر فيه الأهواء.
أولا : لقد ثبت لدي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بالقتال لأصحابه بعد مرور خمسة عشر عاماً على دعوته، فإن القتال شرع في السنة الثانية من الهجرة، على قول أكثر العلماء(1). وهذا يعني أن السنوات التي حارب فيها ثمان سنوات فقط ، لأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى، كانت ثلاثة وعشرين عاماً.
إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الثقافة السائدة آنذاك، تنص على حرمة القتال في الأشهر الحرم، وهي أربعة (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة : 36 ).
وكانت هذه الثقافة محل احترام المسلمين، وخصومهم، إذا أخذنا هذا بعين الاعتبار، كما أسلفت يسقط من الثماني سنوات قرابة ثلاث سنوات، وهي مجموع أربعة أشهر من كل سنة على مدى ثماني سنوات، فتكون المدة الإجمالية التي يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل فيها عدوه هي خمس سنوات فقط من سيرته الطويلة التي امتدت ثلاثة وعشرين عاماً كما أسلفت.
ثانياً : إن عدد المعارك التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم، بلغ تسع معارك فقط، إضافة إلى نشاطات قتالية محدودة، كان يكلف بها أعداداً من أصحابه لإنجاز مهام محددة، لم يكن في أغلبها قتل أو قتال.
لقد اجتهد عدد من العلماء في إحصاء الخسائر البشرية للمعارك التي حصلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحصل تضارب في الأرقام التي وردت عنهم، وكان أعلى هذه الأرقام لا يزيد على 1048 شخصاً من الأطراف جميعها، ولعل ثمة اعتبارات كان لها أثر في إحصاء كل باحث، ولكن ثبت لدي أن العدد لا يتجاوز المئات، على أعلى تقدير، خلال ثماني سنوات، وفي تسع معارك، وعدد من الحملات الصغيرة المحددة.
أما ونحن في مجال ذكر الأرقام، فلا بأس أن نذكر عدد من قتلوا في الحربين العالميتين الأولى والثانية فقط .
الحرب العالمية الأولى، أو الحرب العظيمة، أو الحرب التي أنهت جميع الحروب، هي تلك الحرب التي قامت بين عامي 1914م إلى 1918م، تم استعمال الأسلحة الكيميائية، في تلك الحرب، لأول مرة، ولم يحرك العالم عدداً من الجنود، مثلما حرَّك في الحرب العالمية الأولى، وتم قصف المدنيين، من السماء لأول مرَّة في التاريخ، وتمت فيها الإبادات العرقية: ( 9 مليون عسكري، 7 مليون مدني، المجموع 17مليون نسمة).
الحرب العالمية الثانية، بدأت في عام 1937م، في آسيا، وفي عام 1939م في أوروبا، وانتهت الحرب في عام 1945م، باستسلام اليابان، تعد الحرب العالمية الثانية من الحروب الشمولية، وأكثرها كلفة في تاريخ البشرية، لاتساع بقعة الحرب، وتعدد مسارح المعركة، فكانت دول كثيرة، طرفاً من أطراف النزاع، فقد حصدت الحرب العالمية الثانية زهاء 60 مليون نفس بشرية، بين عسكري ومدني: ( 25 مليون عسكري، 37 مليون مدني).
نعم أعزائي الحضور، اسمعوا بكل حسرة وألم 77 مليون شخص قتلوا في حربين فقط، خلال 12 عاماً تقريباً، منهم 44 مليون مدني، يعني أكثر من ثلثي القتلى من المدنيين.
وفي عصر الرحمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قتل قرابة 1000 شخص من الطرفين، لا يكاد يوجد بينهم مدني، في تسع معارك كبيرة، ومواجهات صغيرة ، على مدى 23 سنة من مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لخصومه.
واسمحوا لي أن أكرر في هذا المقام، بعد الذهول الذي أصابنا من هذه الأرقام، عبارة د. نعوم تشوسكي ( لقد انتزعت هذه الحقائق من التاريخ، وعلى المرء أن يصرخ بها، ويعلنها على رؤوس الأشهاد)(1).
ثالثاً : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتجنب القتال ما وجد إلى ذلك سبيلاً، اجتناب القوي ذي الإمكانات، لعلمه أن دعوته حققت، وتحقق نجاحات كثيرة، دونما حاجة إلى قتال، وهذه حقيقة أكدتها خمس عشرة سنة مضت دون قتال، وكانت زاخرة بالإنجازات.
ولا بأس أن نمثل لصحة هذا التوجه، بما حصل في أول معركة خاضها النبيصلى الله عليه وسلم مع خصومه في مكة، فقد خرج لا يريد قتالاً، وهذه حقيقة سجلها القرآن الكريم ، حين قال في شأنه وشأن أصحابه: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) (الأنفال : 7 )، فكشفت هذه الآية، عن عدم رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في القتال. لكنه لما وصل اضطر إليها، ولم يجد منها بداً، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يهرب من وجه عدوه بحال.
وتمنى قبيل بدء المعركة بساعات، أن تؤوب قريش إلى رشدها، وتعدل عن المواجهة، ويدل على هذا بوضوح قول النبي صلى الله عليه وسلم قبل بدء المعركة بساعات لمن معه ( إن كان عند أحد من القوم خير فهو عند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا)(1). ويعني به عتبة بن ربيعة، الذي كان يسعى لإقناع قريش بالعدول عن الحرب، لكنه لم يتمكن، وغلبه على رأيه أبو جهل وأضرابه.
كان أحياناً يغير طريقه تجنباً للقتال، كما حصل حين توجه مع أصحابه إلى أداء العمرة، وكان يجعل بينه وبين خصومه وسيطاً ليقنعهم بأضرار الحرب، ورغبته في السلام، وهو ما حصل قبيل صلح الحديبية(1).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفضل عقد المعاهدات مع خصومه، ويسارع في إبرامها ليغلق الباب أمام الحرب، وتكاد المعاهدات تبلغ عدد الغزوات، وما هذا إلاَّ لحرصه على تجنب الحرب.
رابعاً : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اضطر إلى القتال، فلا يقاتل إلاَّ دفاعاً عن النفس أو الأرض، حتى وإن بدأ هو بالقتال ، فإذا سمع بخطر داهم، أو بلغه أن قوماً يعدون العدة لقتاله، سعى لقتالهم، وهو بهذا يلتزم التوجيه القرآني الواضح: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة:190).
هنا رفعت إحدى الحاضرات يدها، فأذنت لها بالكلام، فعرَّفت بنفسها بصوت غير مسموع، وقالت إنها تعمل في مجال رعاية الطفولة، ولديها معلومة مفيدة، في هذا المجال، ترغب في ذكرها، فرحبت الدكتورة بعرضها. فقالت المتحدثة:
قرأت في بحث كان قد قُدم إلى ندوة حول الطفولة، وعندي في مكتبي نسخة منه، قرأت فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع خروج الأطفال معه إلى القتال.
فقد حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى معركة بدر، نظر إلى الجيش، وإذا فيه غلامان صغيران، هما عبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى المدينة(2)، مع أنهما حاولا الوقوف على رؤوس الأصابع والتطاول ليبدوان كبيرين، ولكن لم تفلح خطتهما، فقد أصر النبي صلى الله عليه وسلم على عودتهما، مع أنه لم يكن يجزم بإنه سوف يقاتل، ولكن تحسباً لوقوع قتال، كان لابد من تجنيب الأطفال هذه المخاطر رحمةً بهم.
ثم وقفت صاحبة المداخلة وقالت: هل تسمحين بالمواصلة، أجابتها الدكتورة حالاً نعم، نعم تفضلي واصلي حديثك، ولكن اسمحي لي بدقيقة واحدة، أذكر فيها ـ حتى لا أنسى ـ أن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، كان حريصاً على جنس الأطفال وليس على أطفال المسلمين فقط، فقد نهي بشدة ، أن يقتل أحد من أطفال الأعداء، حين قال لخالد بن الوليد رضي الله عنه، أحد قواده ( لا تقتل وليداً، ولا امرأة، ولا عسيفاً)(1) أي خادماً
واصلت صاحبة المداخلة حديثها، فقالت: في مقابل هذا فقد نشرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة ( اليونيسيف) أن 300 ألف طفل يعملون جنوداً في الجيوش ويشاركون في المعارك(2).
وسبق أن ذكرتِ لنا في المحاضرة الأولى، أن منظمة أطباء العالم غير الحكومية، ذكرت أنه قتل أكثر من 2 مليون طفل خلال السنوات الماضية، من جراء الحروب والصراعات.
وهذا يشجعني على أن اقترح أن يضاف إلى النقاط التي تفضلتِ بذكرها، نقطة تتحدث عن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إبعاد المدنيين من أطفال، ونساء، عن الحروب، ولهذا لم يكن في حروبه ضحايا مدنيون.
بعد أن استمعت الدكتورة إلى هذا الحديث، بكل عناية واهتمام، قالت للمتحدثة، أرجو منك أن تتفضلي إلى المنصة عندي، لإعادة هذا الكلام الرائع، والذي اعتبره جزءاً مهماً من محاضرتي، وسوف أثبته فيها.
ترددت المتحدثة بتلبية الدعوة، وحاولت الاعتذار، لكن الدكتورة أصرت عليها، لسبب وجيه، قائلة إن أغلب الحضور لم يستمعوا إلى كلامك المفيد، فصار حضورك إلى المنصة ضرورياً، لتعم الفائدة، حيث إني رأيت أن يكون كلامك هذا هو النقطة الخامسة ضمن هذه النقاط، تقدمت المتحدثة على خجل، وأعادت كلامها أمام الحضور، الذي قابله بإعجاب واستحسان.
وما أن انتهت من كلامها، حتى شكرتها د. سارة مرة أخرى باسمها، واسم الحضور، وما أن انتهت المتحدثة من مداخلتها، حتى وقف أحد الحاضرين، وقال يبدو أن الوضع العام يشجع على المداخلات، فأرجو أن تسمحي لي بذكر شيء طريف أعجبني، يدل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الأطفال، وحرصه عليهم. فقالت له تفضل، فقال روى أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن النبيصلى الله عليه وسلم قال للآباء والأمهات ( كفُّو صبيانكم عند فحمة العشاء، وفي رواية إذا غابت الشمس )(1) ، فأنا أفهم من هذه النصيحة النبوية، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرغب أن يأوي الأطفال إلى البيوت قبل مجئ الليل، لأن الليل لا يخلو من مخاطر متنوعة. قد تعرِّض الأطفال للأذى.
فأي رحمة أظهر من هذه التي يبديها النبي صلى الله عليه وسلم تجاه الأطفال، نتمنى أن نرى مثل هذا التوجه عند أولياء الأمور في عصرنا هذا، وشكراً لكِ على إتاحة هذه الفرصة .
شكرت د. سارة المتحدث على هذه المعلومة الطريفة المعبرة، وطلبت إدراجها ضمن مادة المحاضرة ،وقالت:
لقد تذكرت حادثتين يحسن ذكرهما هنا، فهما مناسبتان لهذا المقام.
الأولى : وقد مرت بنا، وهي قصة أول شهيدة في الإسلام، سمية بنت خباط، فإن أعداء النبي صلى الله عليه وسلم لم يترددوا في قتل امرأة ، في حين لما رأي النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى معاركه امرأة من أعدائه مقتولة، غضب ونهى عن قتل النساء.
فقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة مقتولة في غزوة حنين، والناس مزدحمون حولها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا ؟ قالوا امرأة قتلها خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانت هذه تقاتل، وقال لبعض من معه، أدرك خالداً فقل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاك أن تقتل وليداً أو امرأة أو عسيفاً يعني خادماً.
ما أن انتهت من كلامها، حتى استدرك أحد الحاضرين قائلاً: لقد قرأت أن المرأة كانت تخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه، فهل هذا صحيح، وإذا صح، كيف نوفق بينه وبين ما تفضلتم بذكره.
قالت هذا صحيح، فقد وقفت على نصوص تدل على هذا، وأنا أقرأ عن موقف النبي صلى الله عليه وسلم من المرأة، ولكن ما ينبغي أن يعرف هنا، أن المرأة كانت تبقى في مؤخرة الجيش، تسهم في تقديم العلاج والماء، وكانت بعيدة في الأصل عن ميدان القتال، وفي هذا تكريم لها، حين أعطيت الفرصة لتقديم خدماتها، وفيه رحمة بها، حين أُبعدت عن القتال.
أرغب أعزائي الحضور في العودة قليلاً إلى موضوع عدم سماح النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال بمرافقته إلى ساحة القتال فإنه لا يحسن بأحد أن يتملكه العجب، وهو يرى هذه الصورة الحانية على الأطفال من النبي الكريم الرحيم.
لقد كان من مظاهر رحمته أن يطيل في سجوده حرصاً على طفل ركب على ظهره وهو ساجد, مخافة أن يسقط عن ظهره، وهذا الطفل هو ابن بنته فاطمة(1).
الثانية : أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأوه يحمل الطفلة، أمامة بنت ابنته زينب، فإذا سجد وضعها على الأرض بجانبه، وإذا قام حملها معه(2)، وربما كان يفعل هذا مخافة أن يلحق بها أذى رحمةً منه بها، وشفقة عليها، فهل يتصور ممن هذا تعامله مع الأطفال، أن يسمح لهم بالذهاب معه إلى القتال
هذه هي المحاضرة السابعة للدكتور سارة، وما زال الحضور هو الحضور، وكثر الحديث عن هذه المحاضرات، في بعض المنتديات، إضافة إلى كتابات في صحف ومجلات، تضمنت بمجموعها الثناء عليها، وإن ظهر في بعضها نقد لها، بحجة أنها تتوسع في إيراد النصوص وفي التحليل أحياناً، واحد فقط ممن كتب عن هذه المحاضرات، قال إنها عاطفية.
قد علق كاتب في جريدة الجامعة، وقال هناك خلط بين العاطفية والعائلية، فهذه المحاضرات كأنها وجبات عائلية، تصلح أن يتداولها أفراد العائلة جميعاً، لكنها تبقى فيما يبدو وجهات نظر، كانت هي نفسها محل أعجاب البعض الآخر، بخاصة أولئك الذين لديهم اهتمامات مسبقة بهذا الموضوع.
لم يصدر عن الدكتورة سارة تعليق قط، على ما قيل بشأن محاضراتها هذه، وهو ما استرعى انتباه كثير من المتابعين، وكان بودهم، أن يسمعوا منها شيئاً، لكن لم يشأ أحد منهم أن يطرح هذا الموضوع، أو يسأل عنه.
افتتحت الدكتورة سارة محاضرتها، كعادتها بالترحيب بالحضور، ثم بدأتها قائلة :
سبق الحديث في محاضرة سابقة، عن صلة الأخلاق بعضها ببعض، وقد نقلنا حينها رأي بعض علماء الأخلاق، والذي جاء فيه أن الشخصية الإنسانية ليس بمقدورها أن تبرز في خلق معين، ليصبح علامة فارقة لها مالم تمارس هذه الشخصية ابتداءً غيرها من الأخلاق، وتتلبس بالقيم عامة، وذكرنا حينها مقولة بعض العلماء، إن الأخلاق يقوي بعضها بعضاً، وهو ما يشهد للرأي السابق.
أردت أن تكون هذه الأسطر، مقدمة لموضوع اليوم، ولعلكم تذكرون أن أحد الحاضرين المح إليه قبل عدة محاضرات، وقلت له حينها إنه جانب أصيل من موضوعنا، وسوف نعرض له بشيء من التفصيل.
ولكن يبدو لي أني مضطرة قبل أن أعرض لهذا الموضوع، ولصور الرحمة المصاحبة له، إلى أن أتحدث قليلاً عن فلسفة الحرب في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أخفي عليكم أني لا أرغب في الحديث عن الحروب، وأحسب أنكم تبادلوني الشعور نفسه، ولا تحبون الاستماع إلى ما يتصل بهذه الحروب، التي زكمت الأنوف، برائحتها الكريهة، في عصر خبثت فيه السرائر وعميت فيه البصائر.
لقد أصابنا اكتئاب من أخبار الحروب، والمناظر المصاحبة لها، من دماء وأشلاء، ودمار حتى يُخيل لنا أن البشرية فقدت صوابها، ولم تعد تدري لماذا القاتل يقتل، ولمَ المقتول قتل، ولا لمَ الظالم ظلم، ولا كيف المظلوم انتقم.
إن كراهيتنا للحرب، وأخبارها، وآثارها، لهي من أهم الأسباب التي دفعتنا للحديث عن الأخلاق، وبخاصة خلق الرحمة منها، لتذكر البشرية التائهة، أن ثمة خلقاً في الأرض يسمى الرحمة، قد يغني في مواطن كثيرة عن الحرب، والكراهية، ولتعلم البشرية أيضاً أن ثمة شخصاً تمثلت الرحمة في سيرته كلها، وكانت السلاح الذي حارب به خصومه، في مواطن عدة ، حين حاربوه بالقوة والقسوة، والوسيلة التي جذب فيها كثير من الناس إلى دعوته، ونجح في نشر ثقافة الرحمة بين الناس.
لكن ما العمل إذا كان الحديث عن الرحمة، يمر أحياناً عبر الحديث عن الحرب، وما فيها من هم وكرب، وأرجو أن لا يفهم أننا ننساق خلف العاطفة، ويغلبنا الشعور بالإنسانية، لدرجة أننا نتجاهل قضية الصراع بين الخير والشر في هذه الدنيا، أو نتغافل عن الأسباب التي تؤدي إلى الصراعات سواء ما كان منها مقنعاً أو غير مقنع، مشروعاً أو غير مشروع.
أود أن أعرض ما لدي عن موضوع الحرب في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على هيئة نقاط، حتى لا يأخذنا الحديث إلى حيث لا نريد، بخاصة أننا أمام موضوع تضطرب فيه الآراء، وتؤثر فيه الأهواء.
أولا : لقد ثبت لدي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بالقتال لأصحابه بعد مرور خمسة عشر عاماً على دعوته، فإن القتال شرع في السنة الثانية من الهجرة، على قول أكثر العلماء(1). وهذا يعني أن السنوات التي حارب فيها ثمان سنوات فقط ، لأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى، كانت ثلاثة وعشرين عاماً.
إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الثقافة السائدة آنذاك، تنص على حرمة القتال في الأشهر الحرم، وهي أربعة (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة : 36 ).
وكانت هذه الثقافة محل احترام المسلمين، وخصومهم، إذا أخذنا هذا بعين الاعتبار، كما أسلفت يسقط من الثماني سنوات قرابة ثلاث سنوات، وهي مجموع أربعة أشهر من كل سنة على مدى ثماني سنوات، فتكون المدة الإجمالية التي يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل فيها عدوه هي خمس سنوات فقط من سيرته الطويلة التي امتدت ثلاثة وعشرين عاماً كما أسلفت.
ثانياً : إن عدد المعارك التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم، بلغ تسع معارك فقط، إضافة إلى نشاطات قتالية محدودة، كان يكلف بها أعداداً من أصحابه لإنجاز مهام محددة، لم يكن في أغلبها قتل أو قتال.
لقد اجتهد عدد من العلماء في إحصاء الخسائر البشرية للمعارك التي حصلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحصل تضارب في الأرقام التي وردت عنهم، وكان أعلى هذه الأرقام لا يزيد على 1048 شخصاً من الأطراف جميعها، ولعل ثمة اعتبارات كان لها أثر في إحصاء كل باحث، ولكن ثبت لدي أن العدد لا يتجاوز المئات، على أعلى تقدير، خلال ثماني سنوات، وفي تسع معارك، وعدد من الحملات الصغيرة المحددة.
أما ونحن في مجال ذكر الأرقام، فلا بأس أن نذكر عدد من قتلوا في الحربين العالميتين الأولى والثانية فقط .
الحرب العالمية الأولى، أو الحرب العظيمة، أو الحرب التي أنهت جميع الحروب، هي تلك الحرب التي قامت بين عامي 1914م إلى 1918م، تم استعمال الأسلحة الكيميائية، في تلك الحرب، لأول مرة، ولم يحرك العالم عدداً من الجنود، مثلما حرَّك في الحرب العالمية الأولى، وتم قصف المدنيين، من السماء لأول مرَّة في التاريخ، وتمت فيها الإبادات العرقية: ( 9 مليون عسكري، 7 مليون مدني، المجموع 17مليون نسمة).
الحرب العالمية الثانية، بدأت في عام 1937م، في آسيا، وفي عام 1939م في أوروبا، وانتهت الحرب في عام 1945م، باستسلام اليابان، تعد الحرب العالمية الثانية من الحروب الشمولية، وأكثرها كلفة في تاريخ البشرية، لاتساع بقعة الحرب، وتعدد مسارح المعركة، فكانت دول كثيرة، طرفاً من أطراف النزاع، فقد حصدت الحرب العالمية الثانية زهاء 60 مليون نفس بشرية، بين عسكري ومدني: ( 25 مليون عسكري، 37 مليون مدني).
نعم أعزائي الحضور، اسمعوا بكل حسرة وألم 77 مليون شخص قتلوا في حربين فقط، خلال 12 عاماً تقريباً، منهم 44 مليون مدني، يعني أكثر من ثلثي القتلى من المدنيين.
وفي عصر الرحمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قتل قرابة 1000 شخص من الطرفين، لا يكاد يوجد بينهم مدني، في تسع معارك كبيرة، ومواجهات صغيرة ، على مدى 23 سنة من مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لخصومه.
واسمحوا لي أن أكرر في هذا المقام، بعد الذهول الذي أصابنا من هذه الأرقام، عبارة د. نعوم تشوسكي ( لقد انتزعت هذه الحقائق من التاريخ، وعلى المرء أن يصرخ بها، ويعلنها على رؤوس الأشهاد)(1).
ثالثاً : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتجنب القتال ما وجد إلى ذلك سبيلاً، اجتناب القوي ذي الإمكانات، لعلمه أن دعوته حققت، وتحقق نجاحات كثيرة، دونما حاجة إلى قتال، وهذه حقيقة أكدتها خمس عشرة سنة مضت دون قتال، وكانت زاخرة بالإنجازات.
ولا بأس أن نمثل لصحة هذا التوجه، بما حصل في أول معركة خاضها النبيصلى الله عليه وسلم مع خصومه في مكة، فقد خرج لا يريد قتالاً، وهذه حقيقة سجلها القرآن الكريم ، حين قال في شأنه وشأن أصحابه: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) (الأنفال : 7 )، فكشفت هذه الآية، عن عدم رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في القتال. لكنه لما وصل اضطر إليها، ولم يجد منها بداً، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يهرب من وجه عدوه بحال.
وتمنى قبيل بدء المعركة بساعات، أن تؤوب قريش إلى رشدها، وتعدل عن المواجهة، ويدل على هذا بوضوح قول النبي صلى الله عليه وسلم قبل بدء المعركة بساعات لمن معه ( إن كان عند أحد من القوم خير فهو عند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا)(1). ويعني به عتبة بن ربيعة، الذي كان يسعى لإقناع قريش بالعدول عن الحرب، لكنه لم يتمكن، وغلبه على رأيه أبو جهل وأضرابه.
كان أحياناً يغير طريقه تجنباً للقتال، كما حصل حين توجه مع أصحابه إلى أداء العمرة، وكان يجعل بينه وبين خصومه وسيطاً ليقنعهم بأضرار الحرب، ورغبته في السلام، وهو ما حصل قبيل صلح الحديبية(1).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفضل عقد المعاهدات مع خصومه، ويسارع في إبرامها ليغلق الباب أمام الحرب، وتكاد المعاهدات تبلغ عدد الغزوات، وما هذا إلاَّ لحرصه على تجنب الحرب.
رابعاً : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اضطر إلى القتال، فلا يقاتل إلاَّ دفاعاً عن النفس أو الأرض، حتى وإن بدأ هو بالقتال ، فإذا سمع بخطر داهم، أو بلغه أن قوماً يعدون العدة لقتاله، سعى لقتالهم، وهو بهذا يلتزم التوجيه القرآني الواضح: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة:190).
هنا رفعت إحدى الحاضرات يدها، فأذنت لها بالكلام، فعرَّفت بنفسها بصوت غير مسموع، وقالت إنها تعمل في مجال رعاية الطفولة، ولديها معلومة مفيدة، في هذا المجال، ترغب في ذكرها، فرحبت الدكتورة بعرضها. فقالت المتحدثة:
قرأت في بحث كان قد قُدم إلى ندوة حول الطفولة، وعندي في مكتبي نسخة منه، قرأت فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع خروج الأطفال معه إلى القتال.
فقد حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى معركة بدر، نظر إلى الجيش، وإذا فيه غلامان صغيران، هما عبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى المدينة(2)، مع أنهما حاولا الوقوف على رؤوس الأصابع والتطاول ليبدوان كبيرين، ولكن لم تفلح خطتهما، فقد أصر النبي صلى الله عليه وسلم على عودتهما، مع أنه لم يكن يجزم بإنه سوف يقاتل، ولكن تحسباً لوقوع قتال، كان لابد من تجنيب الأطفال هذه المخاطر رحمةً بهم.
ثم وقفت صاحبة المداخلة وقالت: هل تسمحين بالمواصلة، أجابتها الدكتورة حالاً نعم، نعم تفضلي واصلي حديثك، ولكن اسمحي لي بدقيقة واحدة، أذكر فيها ـ حتى لا أنسى ـ أن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، كان حريصاً على جنس الأطفال وليس على أطفال المسلمين فقط، فقد نهي بشدة ، أن يقتل أحد من أطفال الأعداء، حين قال لخالد بن الوليد رضي الله عنه، أحد قواده ( لا تقتل وليداً، ولا امرأة، ولا عسيفاً)(1) أي خادماً
واصلت صاحبة المداخلة حديثها، فقالت: في مقابل هذا فقد نشرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة ( اليونيسيف) أن 300 ألف طفل يعملون جنوداً في الجيوش ويشاركون في المعارك(2).
وسبق أن ذكرتِ لنا في المحاضرة الأولى، أن منظمة أطباء العالم غير الحكومية، ذكرت أنه قتل أكثر من 2 مليون طفل خلال السنوات الماضية، من جراء الحروب والصراعات.
وهذا يشجعني على أن اقترح أن يضاف إلى النقاط التي تفضلتِ بذكرها، نقطة تتحدث عن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إبعاد المدنيين من أطفال، ونساء، عن الحروب، ولهذا لم يكن في حروبه ضحايا مدنيون.
بعد أن استمعت الدكتورة إلى هذا الحديث، بكل عناية واهتمام، قالت للمتحدثة، أرجو منك أن تتفضلي إلى المنصة عندي، لإعادة هذا الكلام الرائع، والذي اعتبره جزءاً مهماً من محاضرتي، وسوف أثبته فيها.
ترددت المتحدثة بتلبية الدعوة، وحاولت الاعتذار، لكن الدكتورة أصرت عليها، لسبب وجيه، قائلة إن أغلب الحضور لم يستمعوا إلى كلامك المفيد، فصار حضورك إلى المنصة ضرورياً، لتعم الفائدة، حيث إني رأيت أن يكون كلامك هذا هو النقطة الخامسة ضمن هذه النقاط، تقدمت المتحدثة على خجل، وأعادت كلامها أمام الحضور، الذي قابله بإعجاب واستحسان.
وما أن انتهت من كلامها، حتى شكرتها د. سارة مرة أخرى باسمها، واسم الحضور، وما أن انتهت المتحدثة من مداخلتها، حتى وقف أحد الحاضرين، وقال يبدو أن الوضع العام يشجع على المداخلات، فأرجو أن تسمحي لي بذكر شيء طريف أعجبني، يدل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الأطفال، وحرصه عليهم. فقالت له تفضل، فقال روى أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن النبيصلى الله عليه وسلم قال للآباء والأمهات ( كفُّو صبيانكم عند فحمة العشاء، وفي رواية إذا غابت الشمس )(1) ، فأنا أفهم من هذه النصيحة النبوية، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرغب أن يأوي الأطفال إلى البيوت قبل مجئ الليل، لأن الليل لا يخلو من مخاطر متنوعة. قد تعرِّض الأطفال للأذى.
فأي رحمة أظهر من هذه التي يبديها النبي صلى الله عليه وسلم تجاه الأطفال، نتمنى أن نرى مثل هذا التوجه عند أولياء الأمور في عصرنا هذا، وشكراً لكِ على إتاحة هذه الفرصة .
شكرت د. سارة المتحدث على هذه المعلومة الطريفة المعبرة، وطلبت إدراجها ضمن مادة المحاضرة ،وقالت:
لقد تذكرت حادثتين يحسن ذكرهما هنا، فهما مناسبتان لهذا المقام.
الأولى : وقد مرت بنا، وهي قصة أول شهيدة في الإسلام، سمية بنت خباط، فإن أعداء النبي صلى الله عليه وسلم لم يترددوا في قتل امرأة ، في حين لما رأي النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى معاركه امرأة من أعدائه مقتولة، غضب ونهى عن قتل النساء.
فقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة مقتولة في غزوة حنين، والناس مزدحمون حولها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا ؟ قالوا امرأة قتلها خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانت هذه تقاتل، وقال لبعض من معه، أدرك خالداً فقل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاك أن تقتل وليداً أو امرأة أو عسيفاً يعني خادماً.
ما أن انتهت من كلامها، حتى استدرك أحد الحاضرين قائلاً: لقد قرأت أن المرأة كانت تخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه، فهل هذا صحيح، وإذا صح، كيف نوفق بينه وبين ما تفضلتم بذكره.
قالت هذا صحيح، فقد وقفت على نصوص تدل على هذا، وأنا أقرأ عن موقف النبي صلى الله عليه وسلم من المرأة، ولكن ما ينبغي أن يعرف هنا، أن المرأة كانت تبقى في مؤخرة الجيش، تسهم في تقديم العلاج والماء، وكانت بعيدة في الأصل عن ميدان القتال، وفي هذا تكريم لها، حين أعطيت الفرصة لتقديم خدماتها، وفيه رحمة بها، حين أُبعدت عن القتال.
أرغب أعزائي الحضور في العودة قليلاً إلى موضوع عدم سماح النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال بمرافقته إلى ساحة القتال فإنه لا يحسن بأحد أن يتملكه العجب، وهو يرى هذه الصورة الحانية على الأطفال من النبي الكريم الرحيم.
لقد كان من مظاهر رحمته أن يطيل في سجوده حرصاً على طفل ركب على ظهره وهو ساجد, مخافة أن يسقط عن ظهره، وهذا الطفل هو ابن بنته فاطمة(1).
الثانية : أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأوه يحمل الطفلة، أمامة بنت ابنته زينب، فإذا سجد وضعها على الأرض بجانبه، وإذا قام حملها معه(2)، وربما كان يفعل هذا مخافة أن يلحق بها أذى رحمةً منه بها، وشفقة عليها، فهل يتصور ممن هذا تعامله مع الأطفال، أن يسمح لهم بالذهاب معه إلى القتال